وهذه السورة قرئت عند أبي الوفاء ابن عقيل، فسأله سائل فقال له: هب أن الله -جل وعلا- بعث الخلق وجازاهم، فلماذا يكور الشمس، ويذهب النجوم، ويسير الجبال. .. إلى غيرها؟ فأجاب عنه ابن عقيل بأن الله -جل وعلا- خلق هذه الدار، وخلق لها سكانا، فلما ذهب أهلها خربت، وكذلك الله -جل وعلا- خلق هذا الكون؛ ليستدل به العباد على الله -جل وعلا-، فإذا كان يوم القيامة فإن هذا الكون يخرب وما فيه؛ ليظهر الله -جل وعلا- للملحدين والكافرين أن هذه النجوم التي كانوا يعبدونها، أو الشمس التي كانوا يعبدونها، أو الحجارة التي كانوا يعبدونها من دون الله -جل وعلا- أنها ذهبت وتلاشت، ولم يبق إلا الله -جل وعلا- ليستدل به على أن الله -جل وعلا- هو مدبر هذا الكون وما فيه .
قال الله -جل وعلا-: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ </A> يعني: أن الشمس يوم القيامة تكور وتلف كما تلف العمامة، فيذهب ضوءها، ثم بعد ذلك تلقى في النار، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري أنه قال: الشمس والقمر يكوران يوم القيامة </A> وجاء من طريقين آخرين في غير صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، وأسانيدها ظاهرها الصحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار، عقيران يوم القيامة </A> معناه: أنهما يكونان كالثورين المجروحين، إذا ألقي بهما في النار يوم القيامة .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ </A> وقد تقدمت هذه الآية. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ </A> يعني بالعشار: الإبل التي تكون الواحدة منها قد بلغت عشرة أشهر في حملها، فإن العشار جمع عشراء؛ والعشراء: هي الناقة الحامل إذا بلغت عشرة أشهر تسمى عشراء، حتى تضع ما في بطنها بتمام العام، قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ </A> يعني: أن أهل هذه الإبل يعطلونه، ولا ينتفعون بها؛ لأنهم قد جاءهم ما يشغلهم من الأمور العظام .
ونبه الله -جل وعلا- بالعشار؛ لأنها كانت أموالا نفيسة عند العرب، ويحتمل -كما دل عليه ظاهر هذه الآية- أن الناس يعتنون بها في آخر الدنيا، حتى يتحقق ما قاله الله -جل وعلا- في هذه الآية .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ </A> يعني: أن البحار يوم القيامة تسجر، ويوقد عليها حتى تكون نارا، وهذا كما قال الله -جل وعلا- في سورة الطور: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ </A> ؛ لأن هذه البحار يوم القيامة ينفجر بعضها على بعض، وتكون شيئا واحدا ويزول الحاجز الذي جعله الله -جل وعلا- بينها، كما في قوله -تعالى-: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ </A> فإذا انفجر بعضها على بعض أججها الله -جل وعلا- نارا، وتفجير بعضها على بعض سيأتي في سورة الانفطار -إن شاء الله-.
وقد جاء في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وإذا النفوس زوجت: الضرباء يعني: الأصناف؛ كل رجل يجمع إلى كل قوم يعملون عمله </A> وهذا الحديث أورده الحافظ ابن كثير وسكت عليه، وهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ في سنده الوليد بن عبد الله بن أبي ثور، وهو رجل ضعيف، ولكن السلف، كثير من السلف على تفسير هذه الآية بما تقدم .
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ </A> يعني: أن السماء يوم القيامة تكشط، وتنزع كما ينزع الجلد من الشاة، وقد تقدم بيان ذلك في سورة النبأ.
ثم قال -جل وعلا-: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ </A> يعني: أن النار يوم القيامة يوقد عليها إيقادا بليغا شديدا. قال بعض العلماء: إنها يوقد عليها إيقادا شديدا؛ لغضب الرب -جل وعلا- في ذلك اليوم غضبا عظيما، لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن سبب تسجيرها وتأجيجها في ذلك اليوم هو غضب الرب -جل وعلا-؛ ولهذا رب العالمين سمى هذه النار سعيرا في مواضع من كتابه .
ثم قال -جل وعلا-: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ </A> هذا قسم من الله -جل وعلا-، وهذا القسم من الله -جل وعلا- بشيء من مخلوقاته، والله -جل وعلا- يقسم بما شاء، وأما المخلوقون فلا يقسمون إلا بالله -جل وعلا-.
فالله أقسم في هذه الآية بالنجوم، وهذه النجوم أقسم الله -جل وعلا- بها حالة طلوعها، وحالة اختفائها، وحالة جريانها، وحالة غيابها، فقول الله -جل وعلا-: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ </A> الخنس جمع خانس، والخنس: هو الاختفاء، فهذه النجوم إذا طلع النهار اختفت، وإذا زال النهار ظهرت، وقوله -جل وعلا-: الْجَوَارِي </A> أي التي تجري، وهذه النجوم يسيرها الله -جل وعلا- بأمره في السماء. وقوله: الْكُنَّسِ </A> الكنس جمع كانس.
وهذه النجوم يسيرها الله -جل وعلا- بأمره في السماء. وقوله: الْكُنَّسِ </A> الكنس: جمع كانس، يقال: فلان أوى إلى كناسته أي: إلى بيته، والمراد بذلك: غروب النجوم؛ لأن الشمس؛ لأن النجوم لها اختفاء في النهار، ولها غروب، ولها طلوع، ولها جريان، فأقسم الله -جل وعلا- بهذه النجوم.
والدليل على أن المراد بهذه الآيات النجوم -أن الله -جل وعلا- قرن هذه الآية بالليل والصبح، وهذا دليل على أن المراد بهذه الآية النجوم، وليس الظباء أو البقر، كما قال بعض العلماء، وكذلك يدل على أن المراد بقوله -جل وعلا-: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ </A> يدل على أن المراد بها النجوم -الشبه الحاصل بين النجوم والقرآن؛ فالنجوم جعلها الله -جل وعلا- علامات يهتدي بها، ورجوما للشياطين، وهذا القرآن العظيم جعله الله -جل وعلا- هداية للخلق وداحضا ودافعا لكل الشبهات، فناسب أن يكون المراد بقوله -جل وعلا-: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ </A> المراد النجوم؛ لأن الله -جل وعلا- أقسم بذلك على كتابه الكريم في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ </A> .
والمشركون إنما وصفوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما جاء به بالشعر والكهانة، ولم يصفوا بذلك جبريل -عليه السلام-، وأما هذه الآية التي معنا فدلنا على أن المراد به جبريل -عليه السلام- ما ذكر بعدها من الأوصاف، كما يأتي -إن شاء الله-.
فالله -جل وعلا- في سورة الحاقة أضاف هذا القرآن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأضافه في هذه السورة إلى جبريل، ولو كان المراد إنسان -يعني أن جبريل أنشأ هذا القرآن من عنده، أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنشأ هذا القرآن من عنده- لوقع في ذلك تناقض لاختلاف النسبتين؛ لأن الحاقة فيها نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي التكوير فيها نسبته إلى جبريل.
ثم إن الله -جل وعلا- في هذه الآية، وفي الآية الأخرى قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ </A> فأضاف القول إلى الرسول، والرسول بمعنى المرسل، والمرسل هو الذي ينقل الكلام من طرف إلى طرف آخر، ولهذا لم يضف الله -جل وعلا- القرآن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- باسمه، ولا إلى جبريل باسمه؛ لم يقل: إنه لقول محمد، ولم يقل: إنه لقول جبريل، وإنما جاء بالصفة وهي الرسول؛ ليدل ذلك على أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، وليست إضافة إنشاء.
ثم قال -جل وعلا- في صفة جبريل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ </A> فوصف -جل وعلا- جبريل بأنه كريم، وقد تقدم لنا وصف الملائكة بالكرام.
ثم قال -جل وعلا-: ذِي قُوَّةٍ </A> أي: أن جبريل -عليه السلام- أعطاه الله -جل وعلا- قوة؛ لينفذ لله -جل وعلا- ما أراد، كما قال -جل وعلا- في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى </A> يعني: علم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- هذا القرآن شديدُ القوى، وهو جبريل -عليه السلام-.
ثم من بعد ذلك من وصف جبريل -عليه السلام- بأنه خائن للأمانة، فهو ضال مضل؛ لأن بعض أهل البدع يقولون: إن جبريل -عليه السلام- خان الأمانة فأنزل القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان حقه أن يُنزَّل على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فمن قال ذلك فهو ضال خاسر؛ لمخالفته كتاب الله -جل وعلا-.
قال الله -جل وعلا-: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ </A> أي: أن هذا القرآن ليس الذي يلقيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- شيطان، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ليس بساحر ولا بكاهن؛ لأن الشياطين تتنزل على السحرة والكهنة بما تسرقه من السمع، وأما هذا التنزيل الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو قطعا من عند الله -جل وعلا-؛ كما قال - تعالى-: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ </A> ولهذا نفى الله -جل وعلا- أن يكون قول ساحر، أو قول شاعر، أو قول كاهن، كما في آيات كثيرة من كتاب الله -جل وعلا-؛ لأن هؤلاء السحرة والكهنة يتلقون هذه الأخبار من مسترقي السمع، وأما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهذه أخبار من عند الله -جل وعلا- بواسطة الروح الأمين جبريل -عليه السلام-.
ثم قال -جل وعلا-: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ </A> لما بين الله -جل وعلا- صحة رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنها حق، وأن هذا القرآن حق من عند الله قد حفظه الله -جل وعلا-، قال -جل وعلا-: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ </A> يعني: أين تذهب عقولكم عن هذا الحق ؟؛ لأنه ليس هناك إلا حق أو باطل، والعاقل يتبع الحق ويدع الباطل.
فالله -جل وعلا- يقول لهم: فأين تذهب عقولكم؟ يعني: تذهب عن الحق، وتقصد الضلال، ولهذا قال الله -جل وعلا- في آيات أخرى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ </A> .
ثم قال -جل وعلا-: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ </A> يعني: هذا القرآن لما لم يكن متقولا على الله، وليس بتنزيل شياطين، إنه ذكر للعالمين؛ أنزله الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليتذكروا به ويتعظوا ويعتبروا، وقد تقدم لنا ذلك في سورة [ عبس ].
ثم قال -جل وعلا-: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ </A> أي: أن هذا القرآن أنزله الله -جل وعلا- ذكرا لمن أراد الله -جل وعلا- له الهداية، ولمن طلب أسباب الهداية، فقوله -جل وعلا-: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ </A> فيه إثبات أن العبد له فعل وله قصد، ولكن هذا القصد لا يقع إلا إذا شاءه الله -جل وعلا-، ومشيئته لا تتحقق إلا بعد مشيئة الله -جل وعلا-. ففي هذه الآية: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ </A> رد على الجبرية، الذين يقولون: إن العبد مجبور على أعماله.
وفي قوله -جل وعلا-: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ </A> رد على القدرية النفاة الذين يقولون: إن الأفعال كلها منسوبة للعبد ليس لله -جل وعلا- فيها مشيئة، وأما مذهب أهل السنة والجماعة -كما دلت عليه هذه الآية- أن للعبد مشيئة، ولكن مشيئته تابعة لمشيئة الله -جل وعلا-؛ لأنه إذا كان فعل العبد يقع بغير مشيئة الله، فإنه يقع في ملك الله -جل وعلا- ما لا يشاءه الله إليه ولا يريده، وذلك خلاف ما وصف الله -جل وعلا- به نفسه حتى في هذه الآية التي معنا بقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ </A> ؛ لأن الرب هو المالك للخلق، المدبر شئونهم. نعم.